من الخوف إلى الاحتجاج.. لماذا يتعاظم الرفض الشعبي للهجرة في بريطانيا؟

من الخوف إلى الاحتجاج.. لماذا يتعاظم الرفض الشعبي للهجرة في بريطانيا؟
مظاهرات مناهضة للهجرة في بريطانيا

في بلدة أبينغ الهادئة شمال شرق لندن، تحولت شوارعها أخيراً إلى ساحة مواجهة محتدمة بين مئات المتظاهرين المناهضين للهجرة وأنصارهم من النشطاء المؤيدين لحقوق اللاجئين، في مشهد يعكس أزمةً أعمق من مجرد خلاف محلي، إنها أزمة تتعلق بالهوية، والأمن، والاقتصاد، والأهم من ذلك القيم الإنسانية التي بنت عليها بريطانيا تاريخها الحديث.

قضية الهجرة غير الشرعية في بريطانيا لم تعد مجرد مسألة أرقام وإجراءات إدارية، بل أصبحت ملفًا حارقًا يختبر مدى التزام المجتمع والدولة بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان وسط موجة متصاعدة من الغضب الشعبي والتضليل الإعلامي.

جذور أزمة الغضب الشعبي

تزامنت مظاهرات أبينغ الأخيرة مع حادثة مثيرة للجدل، بعد أن وُجهت لطالب لجوء اتهامات بارتكاب اعتداءات جنسية، بينها محاولة تقبيل فتاة في الرابعة عشرة، ورغم أن هذه الحوادث تبقى فردية، فإنها غالبًا ما تتحول إلى شرارة تُشعل نيران الخوف والتحريض، خاصة في سياق اقتصادي مضطرب وأزمة هوية ثقافية عميقة.

يرى بعض المواطنين في بريطانيا أن الوافدين الجدد يمثلون عبئًا إضافيًا على خدمات الصحة العامة، والتعليم، والإسكان، وهي خدمات تعاني أصلًا من ضغوط مزمنة بعد أعوام من التقشف وأزمات اقتصادية متلاحقة، ومع ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، يصبح المهاجرون -ولا سيما غير الشرعيين منهم- هدفًا سهلًا لغضب اجتماعي مكبوت.

على الجانب الآخر، تصب وسائل التواصل الاجتماعي زيتًا على نار القلق المشروع، حيث تنشط مجموعات اليمين المتطرف في نشر روايات مضللة تخلط بين الجرائم الفردية وظاهرة الهجرة. حادثة طعن ثلاث فتيات في ساوثبورت عام 2024 خير مثال، إذ سرعان ما انتشرت شائعات كاذبة تصف الجاني بأنه مهاجر رغم كونه بريطاني المولد، لتتسبب في أعمال شغب امتدت لعدة أيام.

تصاعد الأرقام وتراجع التسامح

بحسب أحدث الإحصاءات، وصل حتى منتصف عام 2025 نحو 24 ألف مهاجر غير شرعي إلى بريطانيا عبر القناة الإنجليزية في قوارب صغيرة، وهو أعلى رقم مسجل لهذه الفترة من العام على الإطلاق، أرقامٌ تُثير المخاوف لدى البعض، في حين تراها منظمات حقوق الإنسان دليلًا على عمق الأزمة الإنسانية في بلدان المنشأ.

تاريخيًا، لم تكن بريطانيا بمعزل عن موجات الهجرة؛ فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تدفق إليها مئات الآلاف من مهاجري الكومنولث للمساهمة في إعادة الإعمار. وفي السبعينيات والثمانينيات، جاءت موجات جديدة لأسباب اقتصادية، أما بعد عام 2000، فأصبحت الهجرة القسرية -هربًا من الحروب في العراق وسوريا وأفغانستان وإفريقيا- هي السمة الأبرز.

غير أن الساحة السياسية البريطانية شهدت تحولًا جوهريًا في السنوات الأخيرة، خاصة بعد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، إذ أسهم الخطاب السياسي، الذي يربط بين سياسات الهجرة والمشكلات الاقتصادية، في صعود توجهات أكثر تشددًا تجاه المهاجرين، حتى أولئك الذين يصلون في ظروف شديدة الخطورة.

ثمن يدفعه الأبرياء

تتعدد الانتهاكات المحتملة في سياق السياسات المتشددة من الاحتجاز في مراكز مكتظة ولسنوات دون محاكمة، إلى الترحيل القسري نحو بلدان غير آمنة، وقد انتقد تقرير حديث لمنظمة العفو الدولية بشكل مباشر السياسات البريطانية التي "تغلق الأبواب" أمام طالبي اللجوء، وتؤدي في أحيان كثيرة إلى إهمال الفئات الأشد ضعفًا، مثل القاصرين وضحايا الإتجار بالبشر.

المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بدورها أعربت عن قلقها من خطط ترحيل بعض طالبي اللجوء إلى دول أخرى قبل البت في طلباتهم، وهو ما يُخالف مبدأ "عدم الإعادة القسرية" الذي يكفل عدم إرسال أي شخص إلى مكان قد يتعرض فيه لخطر الاضطهاد.

وفي تقريرها السنوي، حذرت منظمة الهجرة الدولية من أن السياسات المتشددة تدفع المهاجرين إلى مسارات تهريب أشد خطورة، فيرتفع معها عدد الوفيات في البحر، وفي عام 2024 وحده، لقي المئات حتفهم أثناء محاولاتهم عبور القناة الإنجليزية في قوارب غير صالحة للإبحار.

صراع الشارع بين الخوف والتضامن

تظاهرات أبينغ ليست استثناءً؛ فقد شهدت مدن بريطانية عدة خلال العامين الماضيين موجات احتجاجات مشابهة، دفعت السلطات إلى فرض إجراءات أمنية مشددة وحظر ارتداء الأقنعة، وفي المقابل، تصر منظمات مثل "واجه العنصرية" على النزول إلى الشارع للتأكيد أن "اللاجئين مرحب بهم هنا"، في مشهد يعكس الاستقطاب الحاد داخل المجتمع.

هذا الصراع يتجاوز كونه نزاعًا على سياسات الهجرة؛ إنه صراع حول تعريف "الهوية البريطانية" نفسها؛ هل هي هوية منغلقة تحمي نفسها عبر الأسوار والقوانين الصارمة، أم هوية تعددية تحتضن التنوع وتحترم الكرامة الإنسانية؟

دور الإعلام والتحريض

تلعب وسائل الإعلام الشعبية ومنصات التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام، وكشفت دراسة صدرت عن "معهد الحوار الاستراتيجي" البريطاني عام 2024 عن زيادة ملاحظة في انتشار المنشورات التحريضية ضد اللاجئين، وخصوصًا في أعقاب كل حادث جنائي يرتكبه فرد مهاجر.

مثل هذه المنشورات لا تكتفي بعرض الحقائق، بل غالبًا ما تنتقي الأخبار أو تخرجها من سياقها لتغذي سردية الخطر الداهم، ما يرسخ الخوف ويصعب مناقشة السياسات بهدوء أو بناء توافق اجتماعي حول حلول طويلة الأمد.

خبراء الهجرة يرون أن المعالجة لا يمكن أن تعتمد فقط على التشديد الأمني. بل لا بد من خطة متكاملة تشمل: توسيع مسارات الهجرة القانونية لتقليل الاعتماد على شبكات التهريب، وتعزيز التعاون الدولي لمعالجة جذور الأزمات في بلدان المنشأ، وتحسين نظام اللجوء ليكون أكثر سرعة وعدالة، فيحمي من يحتاج للحماية ويرفض الطلبات غير المستحقة بشكل قانوني، والتوعية المجتمعية والإعلامية لمكافحة التضليل والخطاب المتطرف.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية